نحو تعديل تشريعي يعيد توازن العقود المنظمة بالعملة اللبنانية
المحامية د . لبنى عمر مسقاوي
نشر في جريدة النهار -24/3/2022
أدّىنَّ الإنهيار الإقتصادي والمالي الذي يشهده لبنان منذ أكثر من سنتين، إلى خلق بلبلة، إن لم نقل فوضى، في تنفيذ العقود المنظمة بالعملة اللبنانية، وألحق ظلمًا “أكيدًا” بالطرف المدين بالموجب المقابل للموجب المالي المقدر بالليرة اللبنانية في العقود ذات التنفيذ المتتابع.
فالعقود التي أُبرمت قبل الأزمة، وامتدَّ تنفيذها إلى ما بعد تدهور قيمة العملة، شَهِدَت اختلالًا كبيرًا في توازنها مدمرًا لاقتصادياتها . فالمالك المؤجر، على سبيل المثال، أصبح يقبض بدل إيجار عقاره أقلَّ بتسعين بالمئة منن القيمة المتفق عليها عند التعاقد، وكذلك البائع بالتقسيط الذي شهد انهيار عقده بما يخالف توقعاته عند التعاقد…إلخ .
وقد شهد لبنان ظرفًا مماثلًا في الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي، عندما انهارت العملة اللبنانية، وأثَّرت على اقتصاديات العقود المتتالية التنفيذ. ولم تؤدِّ المراجعات القضائية حينذاك إلىى أي نتيجة تعيد التوازن إلى العقود. بل استقر الاجتهاد على عدم إمكانية مراجعتها من قبل القاضي في غياب النص الصريح الذي يجيز ذلك، في ظل المادة 221 من قانون الموجبات والعقود التي تٌلزم الأطراف بما اتفقوا عليه، وفي ظلِّ عدم إمكانية تطبيق نظرية الظروف الاستثنائية المحصور تطبيقها في المجال الإداري بغياب النص عليها في القانون المدني .
وبالرغم من إصدار القانون 51/91 المتعلق بتمديد المهل القضائية، الذي منح في مادته الخامسة تعويضًا عن تدني قيمة النقد الوطني، فإنَّ هذا التعويض تمَّ ربطه بالأضرار الناشئة عن تدني قيمة النقد الوطني التي تسببت بها المهلة المعطاة من قبل المحاكم من أجل تنفيذ العقد، ولم يكن ممكنًا تطبيقه خارج هذا الإطار .
وبالعودة إلى واقعنا الحالي، فإنَّ حلّ معضلة هذا الاختلال لا يمكن أن يتحقق إلّا بتدخل تشريعي يعطي القاضي الحق في مراجعة العقد وملاءمته على الظروف الاقتصادية المستجدة، كما يعطيه الحق بإنهائه إذا دعت الحاجة .
وفي التشريع المقارن قوانين عديدة تصدَّت لمثل هذه الحالة. فالمادة 147 من القانون المدني المصري، بعد أن كرَّست في فقرتها الأولى عدم جواز نقض العقد أو تعديله إلا باتفاق أطرافه بوصفه شريعة المتعاقدين، عادت في الفقرة الثانية ومنحت القاضي، عند حدوث ظروف استثنائية غير متوقعة عند التعاقد تجعل الالتزام العقدي مرهقًا لأحد أطرافه، سلطة إعادة الإلتزام المرهق إلى الحد المعقول بعد الموازنة بين مصلحة طرفي العقد .
والمشرِّع الفرنسي، في التعديل الذي أدخله على القانون المدني في العام 2016، أرسى في المادة 1195 منه، آلية لإعادة النظر بالعقد في حال حدث تغيير في الظروف لم يكن من الممكن توقعه عند التعاقد، فأدى إلى جعل تنفيذ العقد مرهقًا بشكل كبير لأحد أطرافه، على أن لا يكون هذا الطرف قد رضي بتحمل مخاطر مثل هذه الظروف عن التعاقد. وتقوم هذه الآلية على مسارين، أحدهما خارج إطار القضاء والثاني قضائي.
في المسار الأول، يحق للفريق الذي أصبح تنفيذ العقد مرهقًا له بشكل كبير نتيجة للظروف الاستثنائية المستجدة، أن يدعو شريكه في العقد إلى إعادة التفاوض على مندرجاته، على أن يستمر في تنفيذ موجباته العقدية خلال فترة إعادة التفاوض. وفي حال فشل المفاوضات، أو رفض الطرف الآخر الشروع فيها، يمكن للطرفين أن يتفقا على إنهاء العقد في الظروف والتاريخ اللذين يحددانهما.
أما المسار القضائي فينقسم إلى مرحلتين أولاهما اتفاق الطرفين على اللجوء إلى القضاء خلال مهلة معقولة لطلب ملاءمة العقد مع الظروف، بعد تعثر المسار الأول؛ وأما المرحلة الثانية فتتمثل بإعطاء الحق لأحد أطراف العقد، بعد استنفاد كلِّ ما سبق من دون طائل، أن يطلب من القضاء مراجعة العقد أو إنهاءه، في الظروف والتاريخ اللذين يحددهما .
إنَّ اقتباس الحلول لواقعنا الحاضر، من القوانين المقارنة، وخاصة من أحكام المادة 1195 من القانون المدني الفرنسي يمكن أن يشكل مخرجًا لحالة التخبط التي يشهدها تنفيذ العقود في واقعنا الراهن. لكن هذا لن يحصل إلّا بتدخل تشريعي ينظم آلية إعادة التوازن الى العقد ، ويمنح القضاء الحق بمراجعة العقود وملاءمتها وفقا للظروف الاستثنائية المستجدة، أو حتى إنهائها إذا ما اقتضت المصلحة ذلك .
هذا التدخل التشريعي لا يشكل تعديًا على مفهوم سلطان الإرادة المكرَّس قانونًا، و لا يشكِّل وصاية على إرادة الفرقاء فيما يتعلق بحريتهم التعاقدية، بل هو يُكرِّس الإرادة الحقيقية للفرقاء كما جرى التعبير عنها عند التعاقد. ذلك أنَّ الطرف المتضرر من الظروف الاستثنائية غير المتوقعة لم تكن إرادته لتتجه إلى ما التزم به بموجب العقد لو استطاع أن يستشرف هذه الظروف. بالإضافة إلى أن الآلية التي نصت عليها مثلًا المادة 1195 المعدلة، تعطي الأولوية لإرادة الطرفين في إيجاد حلٍّ رضائي سواءٌ بالتعديل أو الإنهاء أو الرجوع إلى القضاء، فإذا تعذر ذلك كله، بات للطرف المرهق من التنفيذ الحق باللجوء منفردًا إلى طلب حلٍّ قضائي.
وانهيار العملة اللبنانية لما يجاوز 90% من قيمتها بعد استقرار استمر لمدة جاوزت ربع قرن ، يشكل حتمًا ظرفًا إستثنائيًّا لم يكن بالإمكان توقعه عند التعاقد.
من هنا، يمكن اقتراح تعديل قانون الموجبات والعقود والاستئناس بأحكام المادة 1195 من القانون المدني الفرنسية، مع إضافة ضوابط تتلاءم مع الظروف المستجدة في لبنان . فالظروف الاستثنائية المستوجبة لتعديل القانون وقعت فعلًا في لبنان ، ولم تعد احتمالًا يلحظه القانون كما هي الحال في القوانين المقارنة .
والتعديل المنشود هنا ذو طابع إنقاذي، إذا جاز التعبير، فينبغي تحصينه بتدابير ملائمة تجد حلًّا للانهيار الذي لحق باقتصاديات العقود نتيجة تدهور قيمة العملة، بصورة فعالة وبقدر معقول من السرعة، لئلا يفقد مبررات وجوده . لذلك، يمكن اقتراح تشريع مشابه لإحكام المادة1195 من القانون المدني الفرنسي مع الضوابط التالية :
- تحديد مهلة للتفاوض التوافقي بين الأطراف ( شهر مثلاً) يتم خلالها إعادة التفاوض على تعديل العقد، أو إنهائه، على أن يكون لأي فريق بالعقد، بانتهاء هذه المدة حق اللجوء إلى القضاء.
- منح القضاء سلطة ملاءَمة العقد على الظروف الاستثنائية المستجدة، وتعديل الالتزام الذي أصبح مرهقًا على عاتق المدين به، بإعادته إلى الحد المعقول إضافة إلى منح القاضي سلطة إنهاء العقد في حال اقتضت المصلحة ذلك.
- تشكيلهيئة قضائية في كل محافظة تكون مهمتها حصرًا البت بهذا النوع من الدعاوى، على أن تتبع أصولًا موجزة توخيًا للسرعة في فصل النزاعات.
- النصصراحة على سريان التعديل على العقود المبرمة قبل إصدار قانون التعديلي، والتي تتوافر فيها شروط تطبيقه.
إنَّ إقرار تشريع خاص تجاوبًا مع الظروف الاقتصادية المستجدة هو المدخل الوحيد لحل المشاكل القانونية الناتجة عن انهيار قيمة العملة اللبنانية في الإطار العقدي، بما يحقق العدالة التعاقدية ويحافظ قدر الإمكان على اقتصاديات العقود، ويتلافى نزاعات كثيرة بدأت ملامحها بالظهور على أرض الواقع، ويقدم للقضاء ولأطراف العقد الحل القانوني لتطبيقه .