أثر انهيار النقد اللبناني على الالتزامات العقدية المنظمة بالعملة الأجنبية

أثر انهيار النقد اللبناني على الالتزامات العقدية المنظمة بالعملة الأجنبية

د. لبنى عمر مسقاوي

  • نشر  في مجلة  الحقوق و العلوم السياسية – كلية الحقوق الجامة اللبنانية – العدد 35 – 2022

إنَّ ظاهرة تنظيم العديد من العقود بالعملة الأجنبية التي انتشرت منذ بدايات التسعينات من القرن الماضي، لم تأت من فراع، بل إن الهدف الأساسي منها كان تجنب انهيار العملة اللبنانية وبالتالي انخفاض قيمة المنافع التي يسعى الدائن الى تحقيقها من العقد ، حيث بقيت تجربة الثمانينات من القرن الماضي ماثلة في الأذهان عندما انهارت العملة الوطنية بشكل مأساوي أدى في الإطار العقدي الى خسارة الدائنين بشكل كبير لقيمة الالتزامات المقدرة بالليرة اللبنانية.

هذا الواقع الذي نشأ خلال الثمانينات و أوائل التسعينات من العقد الماضي، لم يستطع احد حياله شيئاً، ولا حتى القضاء الذي رفض في العديد من أحكامه التدخل لإعادة التوازن العقدي، في غياب أي تشريع يجيز له إعادة النظر في العقد ، حيث تمسك اجتهاد المحاكم بتطبيق الشريعة العقدية الناشئة عن إرادة المتعاقدين و قضى برد الدعاوى الهادفة الى إعادة النظر في قيمة الالتزامات المالية على ضوء انهيار العملة .

لذلك وبالرغم من استقرار سعر صرف الليرة منذ العام 1993، اختار العديد من المتعاقدين تنظيم عقودهم بالدولار الأميركي، تحسُّبا لأي انهيار في سعر العملة اللبنانية يؤثر على قيمة الالتزامات النقدية . إلاَّ أنَّ ما حدث من انهيار للعملة الوطنية خلال العام 2020 ، خلق إشكالية في الاتجاه المعاكس، تتمثل في كيفية إيفاء العقود المنظمة بالعملة الأجنبية .

و على ضوء التضارب الذي خلقته هذه الإشكالية في التعامل و في القرارات القضائية سواء في معرض المعاملات التنفيذية أو في معرض دعاوى إثبات صحة العرض و الإيداع ، أصبح لزاما البحث في الأحكام القانونية التي تضبط هذا التضارب .

 

أولا_دور البنود المنظمة بالعملة الأجنبية في حماية العدالة التعاقدية و التوازن العقدي

عند التعاقد، قد يلجأ الأطراف الى تقييم الالتزامات النقدية بالعملة الأجنبية  تحسبا للمخاطر التي قد تنشأ عن انهيار قيمة العملة للبنانية بما لهذا الانهيار من تأثير على التوازن العقدي .

أ-العدالة التبادلية كتعبير عن عنصر الرضى في العقد

إنَّ مبدأ حرية التعاقد  مكرَّس في النظام القانون اللبناني ، فللأطراف أن يرتبوا علاقاتهم كيفما يشاؤون بشرط عدم مخالفة النظام العام والقواعد القانونية الإلزامية ،

ومتى نشأ العقد صحيحاً أصبح ملزما لأطرافه . فالعقد هو شريعة المتعاقدين، وهو ملزم لأطرافه بما اتفقوا عليه في متنه، ولا يجوز لأي فريق في العقد بإرادة منفردة منه تغيير مندرجات العقد أو تعديل مضمون الالتزامات المتبادلة.

وإلزامية العقد تنبع من مبدأ سلطان الإرادة ،  فطالما أن الفرقاء التزموا بشيء فلا يحق لأي منهم تغيره كما لا يجوز للقاضي التدخل لتعديل هذه الالتزامات .

فالعقد الذي أنشأته إرادة الأطراف وارتضت به ، يحمل في مضمونه توازناً اتفاقيا بين موجباته المتبادلة ، يُعبَّر عنه ” بالعدالة التبادلية ” ، بحيث أنَّ كل طرف يأخذ من العقد ما يعادل ما يعطيه بموجبه ،هذا التوازن في الالتزامات المتبادلة يُعبّر عن المنفعة التي يتوخاها كلا الطرفين من التعاقد  .

ذلك أنَّ التقاء إرادة كل فريق على إبرام العقد هو بجوهره توافقهما على المنفعة التي يحققها العقد لكل منهما .

فالرضى يتحقق عندما يقبل كل طرف بما يحقق مصلحته من التعاقد . والإرادة الحرّة لكل طرف عند التعاقد تلعب دوراً مزدوجاً فيما يتعلق بالعقدـ فهي من جهة تشكل ركناً أساسياً من أركان العقد يتمثل بعنصر الرضى، وهي من جهة ثانية تبرّر  أو تؤكد الصفة الإلزامية للعقد .

والقوَّة التنفيذيَّة للعقد تنبع من سلطان الإرادة القادرة على إنشاء الموجبات وتنفيذها و بالتالي فإن العقد هو   ملزم لأطرافه كونه نشأ عن الإرادة الحرَّة لكل طرف الذي التزم بما يحقق له المنفعة من العقد . من هنا ، يصبح العقد واجب الاحترام بكافة مدرجاته لكونه نتاج إرادة طرفيه وهو بالتالي يشكل التعبير ا لأمثل عن المصالح الشخصية لكن منهما   .

 

ب-البنود المقيمة بالعملة الأجنبية كوسيلة لاحتساب المخاطر المترتبة على العقد  و لضمان التوازن العقدي

 

عندما يكون العقد متتابع التنفيذ بحيث يمتد تنفيذه لمدَّة معينة من الزمن ، أو عندما  يكون  احد الالتزامات العقدية مؤجل التنفيذ يدرس الأطراف المنفعة المتأنية من العقد على ضوء عدة عوامل، تمثل مخاطر التنفيذ، بحيث يتم إدخال هذه المخاطر في إطار العقد ، حتى يأتي تنفيذه بما يتوافق مع التوقعات المشروعة لأطرافه  .

و يتم ذلك عن طريق توقع المعطيات المستقبلية التي من شأنها أن تؤثر على تنفيذ الالتزامات العقدية ، وذلك سعيا من فرقاء العقد لملاءمة اتفاقهم مع المتغيرات المرتبطة بالعملية موضوع العقد . فالأخذ بعين الاعتبار لهذه التغيرات هو امر جوهري لضمان قابلية المشروع التعاقدي للحياة ، هذه القابلية تستند أساسا على اخذ الأمور الاحتمالية ، القابلة للتحقق ، بعين الاعتبار عند احتساب المخاطر الناتجة عن العقد.

فتصور  المخاطر القابلة للتحقق مستقبلاً عند التعاقد ، وإدخالها ضمن عناصر العقد ، هو امر بغاية الأهمية كونه يصبّ في مصلحة المتعاقدين ، إذ أنَّ تحقق المخاطر يعني حكما تحقق كلفة معينة قابلة للتقدير عند التعاقد

والحقيقة  ، إن الأزمات الاقتصادية هي من أهم الأمور التي تدخل في احتساب المخاطر المحيطة بالتعاقد ، وكذلك الأمر بالنسبة لإمكانية تغير سعر صرف العملة .

فالأطراف ، عند ما يحددون قيمة التزاماتهم المادية يدخل في صلب تقديرهم واقع كون النقود هي أداة تبادل متغيرة بطبيعتها تتأثر بعدة عوامل  مما يدفع بالمتعاقدين الى اللجوء الى وسائل تقنية فعّالة من أجل مواجهة مخاطر تغيير سعر الصرف تبعاً للأزمات الاقتصادية أو النقدية ، بحيث يشكل اللجوء الى تقييم الالتزامات بعملة اكثر استقرارا من العملة الوطنية أحد أكثر الحلول شيوعاً للحفاظ على الأمان العقدي وعلى التوازن بين الالتزامات المتبادلة ، وبالتالي للحفاظ على المنفعة المتوخاة من العقد التي اتجهت اليها إرادة الأطراف أساسا عند التعاقد .

إن ََّالبند   العقدي المنظم بالعملة الأجنبية ، يهدف الى ضمان التوازن العقدي   في مواجهة أي تغييرات اقتصادية أو نقدية .و هو نوع من البنود التصحيحية التي من شأنها أن تزيل أثر المخاطر أو الأزمات ،التي تؤدي الى هبوط سعر النقد الوطني ، في حال تحققها ، و تضمن بالتالي التوازن بين حقوق و التزامات المتعاقدين .

وهذا ما يحصل عندما تحسب المخاطر عند التعاقد وتؤطر ضمن  العقد بحيث يجعل الأطراف منها عنصراً كاملاً في اتفاقهم  تقدر قيمته مسبقاً وتؤخذ بعين الاعتبار عند احتساب الموجبات المتقابلة مما يؤمن نوعاً من التوازن العقدي  .

وتقر الأنظمة القانونية الحديثة ، بوجوب احترام اعتبارات الاستقرار العقدي، وكذلك احترام التوقعات المشروعة لأطراف عند التعاقد .

إن هذا الاحترام هو الذي يعزز الثقة بالإطار القانوني والاقتصادي الذي يعمل أطراف العقد ضمنه. فالأطراف  يجب أن يكون لديهم عند التعاقد إمكانية التوقع المعقول لالتزاماتهم القانونية .

بالعودة الى الواقع العملي في لبنان ، نجد أن ظاهرة تقيم الالتزامات العقدية بالعملة الأجنبية وخاصة بالدولار الأميركي تشكل استجابة لما تقدم من اعتبارات . فهو في المقام الأول يشكل تأطيراً واحتسابا للمخاطر التي يمكن أن تتحقق في حال انهيار قيمة العملة الوطنية ، بحيث يتم تفاديها باعتماد عملة اكثر استقرارا ، وهو في المقام الثاني ، يحافظ على التوازن العقدي بحيث يحول دون انخفاض قيمة الالتزام النقدي مقابل ما يحصل عليه الطرف الآخر في العقد ، وهو في المقام الأخير يحافظ على المنفعة المتوقعة من العقد ، والتي توخاها المتعاقدون ابتداء ويحافظ بالتالي على القيمة الاقتصادية للعقد  .

ثانيا -في مدى قانونية إيفاء الالتزامات العقدية بالعملة الأجنبية بما يقابلها بالعملة اللبنانية

يثور التساؤل حول مدى قانونية ا إيفاء الالتزامات الأجنبية بالعملة الرسمية و ما هو سعر العملة اللبنانية الواجب الاعتماد لتسديد هذه الالتزامات

أ-في الأحكام القانونية  للإيفاء بالعملة اللبنانية

سنداً لأحكام المادة 301 موجبات وعقود ، فإن  الإيفاء يجب أن يتم في عملة البلاد ، كما سندا لأحكام المادة و7 نقد  وتسليف فأن الليرة اللبنانية قوة إبرائية على غير محدودة في أراضي الجمهورية اللبنانية ، و  قد رتبت المادة 192 من قانون النقد و التسليف الجزاء على من يمتنع عن قبول الإيفاء بالعملة اللبنانية.

إنَّ منح المشرع اللبنانية القوة الابرائية الشاملة لليرة اللبنانية و فرضه الإيفاء بها ، يرتكز على ما يسمى بالنظام العام المالي الحمائي للعملة اللبنانية  ، فالأمر يتعلق بالنظام العام المالي الحامي للعملة الوطنية وبالتالي لا يمكن فرض الدفع بالعملة الأجنبية، و لا يمكن رفض الإيفاء بالعملة الوطنية،

فالعملة الوطنية هي الوسيلة إيفاء تملك بذاتها قوة الإبراء ، و هي الزامية حتى لو كانت العقود تتضمن بندا نقديا بالعملة الأجنبية .

وبالتالي ، فإذا رَفض المدين أداء الدين بالعملة الأجنبية متمسكا بالتسديد بما يقابله بالعملة اللبنانية فلا يمكن للدائن رفض الإيفاء .

والسؤال الذي يثور، هو على أي أساس يتم احتساب سعر صرف الدولار الأميركي؟

هل يحسب على أساس “السعر الرسمي” الصادر  عن مصرف لبنان أم على أسعار سعر السوق الحرة  .

من العودة الى قانون النقد والتسليف ، نجد انه بمعزل عن المواد المتعلقة بإصدار النقد، فإن المواد التي تتعلق بدور مصرف لبنان فيما يتعلق بالنقد هي المادة 70 التي تنص على جهة المحافظة على سلامية النقد اللبناني كإحدى المهام العامة لمصرف لبنان ، والمادة 75 التي تعطي المصرف الدور باستعمال الوسائل التي يرى أن من شأنها تأمين ثبات القطع، حيث يمكنه من اجل ذلك أن يعمل في السوق بالاتفاق مع وزير المالية ، مشترياً أو بائعاً ذهباً أو عملات أجنبية  .

 

فالنصوص التي تربط مصرف لبنان بالنقد، إن لجهة إصداره أو لجهة التدخل في السوق لتأمين ثبات القطع تنفيذاً لمهمته العامة بالحفاظ على سلامة النقد اللبناني، لا يوجد ضمنها أي نص يعطي مصرف لبنان حق تسعير العملة اللبنانية مقابل العملات الأجنبية ، ناهيك عن فرض هذا السعر على الأفراد في معاملاتهم  الخاصة .

بل أن ما يحكم تحديد قيمة العملة اللبنانية هي المواد 2 و 229 من قانون النقد والتسليف حيث تنص الأولى صراحة على ما يلي :

” يحدد القانون قيمة الليرة اللبنانية بالذهب الخالص  “

في حيث نصّت الثانية في فقرتها الأولى على ما يلي :

” ريثما يحدد بالذهب سعر جديد لليرة اللبنانية بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي وريثما يثبت هذا السعر بموجب قانون وفقاً للمادة الثانية ، يتخذ وزير المالية الإجراءات الانتقالية التالية التي تدخل حير التنفيذ بالتواريخ التي سيحددها:

  • يعتمد لليرة اللبنانية ، بالنسبة للدولار الأميركي المحدد بـ 0,888671  غرام ذهب خالص سعر قطع حقيقي أقرب ما يكون من سعر السوق الحرَّة يكون هذا السعر الانتقالي القانوني ” لليرة اللبنانية “

مع الإشارة الى أن قانون النقد والتسليف قد صدر قبل التخلي عالمياً عن التغطية الذهبية للدولار بموجب اتفاقية جامايكا في العام 1971 اثر قرار الولايات المتحدة في العام 1971  وقف تحويل الدولار الى ذهب .

فقيمة الليرة اللبنانية بالنسبة للذهب وبالنسبة للعملات الأجنبيه تحدَّد بقانون يصدر عن مجلس النواب، أو في حالات معينة بموجب تفويض من مجلس النواب لمجلس الوزراء بإصدار قانون بهذا الصدد، الأمر الذي حصل في العام 1973 بإصدار القانون المنشور بالمرسوم 6105 والذي أعطى الحكومة (أو وزير المال بتفويض من الحكومة) ضمن مدة ستة أشهر، صلاحية لتحديد سعر انتقالي قانوني جديد لليرة، بعد استشارة مصرف لبنان، وذلك ريثما تحدد قيمة الليرة بالذهب ويعاد على أساسه تقويم موجودات المصرف من ذهب وعملات أجنبية. إلا أنَّ  هذه المدة انقضت دون أن تحدد الحكومة اللبنانية سعراً قانونياً جديداً لليرة.
و بالتالي ،  وفي ظل عدم صدور قانون يحدد سعر الصرف، فإن سعر الصرف لليرة اللبنانية بمقابل العملات الأجنبية يحدده سوق العرض والطلب لا المصرف المركزي.

ونظراً لكون المادة 229 نقد وتسليف قد تبنت سعر السوق الحرة كسعر قانوني فقد استمر الأمر كذلك حتى العام 1997 حين اعتمد  مصرف لبنان سعراً ثابتاً  رسمياً لليرة اللبنانية .

هذا السعر الرسمي المعتمد من قبل مصرف لبنان ، لا سنداً قانونياً له في ظل صراحة نص المادة الثانية من قانون النقد والتسليف التي خولت المشرع وحده تحديد قيمة العملة اللبنانية .

وهذا ما أكدت عليه هيئة الاستشارات والتشريع في وزارة العدل في العام 1985 حيث أوردت أن  أي تحديد لسعر قانوني جديد لليرة يستوجب تدخل المشرع  سنداً لأحكام المواد 2 و 229 من قانون النقد والتسليف.

خلاصة القول ، أن عبارة السعر الرسمي للعملة اللبنانية تجاه الدولار الأميركي وفقا لمصرف لبنان ، لا أساس قانوني له  وإذا كان هناك من “سعر رسمي ” تعتمده الدولة على المعاملات التي تحتاج فيها لتسعير الدولار من اجل استيفاء الرسوم والضرائب فهذا السعر لا يمكن أن يكون ملزما للأفراد لتطبيقه على علاقاتهم الخاصة، بل هو يتنافى مع المبادئ القانونية ومع حقيقة النظام الاقتصادي الحر المعتمد في لبنان  .

هذا الأمر أقرَّه اجتهاد المحاكم اللبنانية منذ أربعينات القرن الماضي، حيث ميزت العديد من الأحكام بين السعر الرسمي الذي لا يطبق إلاَّ على معاملات الدولة مثل موضوع استيفاء الضرائب وتحويل رواتب الموظفين الى الخارج ، و بين سعر السوق الحرَّة الذي يعكس حقيقة سعر العملة والذي يجب اعتماده لتسديد الديون التعاقدية المترتبة بالعملة الأجنبية حيث لا يعتد بالسعر الرسمي بالنظر لوجود السوق  الحرة ، إلاَّ للتعامل الرسمي . 

وقد كرَّس اجتهاد حديث هذا المبدأ عندما اعتبر أنَّ ا الأوراق النقدية ليس لها قيمة لذاتها بل أنَّ قيمتها تكمن في قدرتها على إشباع الدائن باستيفاء دينه بالذات ، و انه اذا اختار المدين الإيفاء بالعملة اللبنانية عليه أن يدفع الدين على أساس صرف العملة الأجنبية في السوق الحرة بتاريخ الدفع الفعلي و بما يوازي القوة الشرائية للعملة الأجنبية بما يحقق الإشباع للدائن .

ب_ في وجوب اعتماد السعر الحقيقي في السوق الحرة  لإيفاء الالتزامات العقدية  بالعملة الأجنبية

تطبيقًا لكل ما تقدم من مفاهيم، و طالما أنَّ المشرع  اللبناني لم يتدخل لتحديد سعر صرف الليرة بما يتناسب مع قيمتها الحقيقية من الناحية الاقتصادية و النقدية ، يصبح لزامًا على المدين بالتزام مادي مقيَّم بالدولار، أن يسدده بالعملة اللبنانية وفق سعرها الحقيقي في السوق الحرَّة، الذي يعبِّر عن القيمة الفعلية للالتزام المقابل للالتزام النقدي المقيَّم بالدولار، ويستجب للاعتبارات النقدية تطبيقاً لمفهوم المادة 229 من قانون النقد والتسليف ،كما يستجيب للاعتبارات القانونية المتعلقة باحترام إرادة الفرقاء وتوقعاتهم المشروعة بما يحافظ على القيمة الاقتصادية  للعقد .

فالتوقعات المشروعة للمتعاقدين، والتي هي جزء من عنصر الرضا المعبَّر عنه بإرادة الفرقاء بالالتزام بتنفيذ العقد بالعملة الأجنبية تحسبًا لأي انهيار للعملة اللبنانية وإبقاءً على المنفعة من العقد، هو أمر لا يمكن المساس به، تحت طائلة ضرب فكرة الأمان التعاقدي تبعًا  لاختلال التوازن العقدي الحاصل حكمًا في حال اعتماد ما يسمى بالسعر الرسمي للعملة اللبنانية من أجل تنفيذ الالتزامات العقدية .

والدور المعوَّل عليه في هذا الإطار هو للقضاء المدعو إلى تقدير التوازن الاقتصادي للعقد عن طريق تقدير القيمة الاقتصادية للالتزام من خلال التقنيات العقدية المعروضة عليه. وينبغي له أن يأخذ بعين الاعتبار الآثار الاقتصادية  لأي قرار قد يصدر عنه، وهو مدعو في كل الأحوال إلى تكريس إرادة  الفرقاء تطبيقًا لمفهوم الاستقرار في التعامل، لأنَّ فرض تنفيذ الالتزامات المحررة بالعملة الأجنبية بسعر الصرف الرسمي الذي يقلّ أضعافاً مضاعفة عن السعر الحقيقي، يؤدي الى تبدَّيد المقابلُ الفعلي لالتزام الدائن بالموجب المالي المقيَّم بالدولار، وهذا مساس خطيرٌ بالأمان العقدي وإهدارٌ للتوازن العقدي واقتصاديات العقد، عدا عن انه يشكل بطريقة أو بأخرى تدخلا من قبل القاضي لتعديل مضمون العقد   .

فالعقد يفقد صفته كنتاج للإرادة المشتركة لأطرافه اذا كان بالمكان التدخل لتعديله من قبل القاضي عند كل أزمة اقتصادية ، مما يؤدي الى عدم استقرار العلاقات التعاقدية . فتقديم إرادة الفرقاء على أي عامل آخر و تكريسها هو تكريس لمفهوم الاستقرار في التعامل .

علما أنّ الاجتهاد اللبناني في مرحلة سابقة أقرّ وجوب تسديد الدين النقدي المقيم بالعملة الأجنبية بما يقابلها بالليرة اللبنانية بتاريخ تسديد الموجب و ليس وفقا لقيمتها بتاريخ إنشاؤه . إذ اعتبر الاجتهاد انه عندما يكون الدين محرراً بالعملة الأجنبية و يرغب المدين تسديده بالعملة الوطنية  يجب أن يؤخذ بسعر العملة الأجنبية كما هو رائج في بلد الإيفاء بتاريخ استحقاق الدين. و تطبيقا لذلك  يحق  للمدين بالموجب العقدي المنظَّم بالعملة الأجنبية أن يطلب استيفاء الموجب  بما يعادل قيمته بالعملة اللبنانية   بحسب سعرها في السوق الحرة  .  حيث  انه عندما تكون العملة المتعاقد عليها هي العملة الأجنبية فهي وحدها الملزمة لهم ، و هي تتخذ  كأساس يترتب على المتعاقدين أن يتحاسبوا عليه ، في حين أنَّ العملة اللبنانية إذا ما شاء المدين أن يستعملها لإبراء ذمته ليست سوى عملة للدفع يحق له أن يلجأ أو أن لا يلجأ الى استعمالها لإبراء ذمته من دينه المحرر بالعملة الأجنبية ، و لكن اذا إذا اختار المدين الإيفاء بالعملة اللبنانية بدلاً من الأجنبية فعليه أن يوفيها من العملة اللبنانية مقداراً يمكنها من الحصول ما يوازي دينها بالعملة الأجنبية .

 

خلاصة القول أنَّ تطبيق القانون لجهة القوة الإلزامية للعقد، كما لاحترام عنصر الرضى المتمثل بإرادة الفرقاء عند التعاقد ولاحترام التوازن العقدي والتوقعات المشروعة للمتعاقدين بما يحقق المنفعة المتوخاة من العقد… كلها قواعد توجب تنفيذ الالتزامات المالية المقيمة بالدولار الأميركي، بسعر العملة اللبنانية مقابل الدولار في السوق الحرَّة.  أما التخبط  الذي نشهده حاليًّا، فينبغي وضع حدّ له وفقاً للمعايير القانونية و الاقتصادية الواضحة، بحيث يتدخل المشرع اللبناني تطبيقا لأجكام المادة الثانية من قانون النقد و التسليف  .